لم يعد الإنسان وحده على المسرح..
كان المشهد دائمًا واضحًا، أما اليوم فثمة كيان جديد يصعد من الظلال، لا يحمل لحمًا ولا دمًا، لكنّه يُحاكي الإنسان، يبتسم كما نبتسم، يحاور كما نحاور، ينظر كما ننظر، بل ربما في لحظاتٍ عابرة يخدعنا حدّ أن نصدق أنه “نحن”.
نحن في لحظة فريدة من التاريخ؛ فالتقنيات التي كانت تُثير الدهشة قبل سنوات باتت اليوم مجرد بداية، والعروض التجريبية التي كنا نتابعها بدهشة تحوّلت الآن إلى أدواتٍ يومية، تُستخدم في التعليم، التسويق، الفن والإقناع.. صور تتحرك وتتكلم وكأنها من لحمٍ ودم، أصواتٌ تُحاكي اللهجات، وسيناريوهات تُكتب وكأن كاتبها عاش التجربة.
يكمن الخطر في قدرة الإنسان على تصديقها، في استسلامه لجمالها وانسيابها وذكائها.. وما يثير القلق أنها تتقن تقليد وعينا، وتتسلل إلى مساحة القرار داخلنا، فتقترح، وتقنع، وتوجه دون أن ندري. هنا تكمن المفارقة: ما بدا مجرد أدوات، بدأ يتحول إلى شريك خفي في تشكيل نظرتنا للعالم.
هذه ليست مبالغة شعرية، بل سؤال وجودي: مَن سيملك زمام العقل إذا بدأ العقل يتلقى معلوماته من “كائن” لا يشعر ولا يُحاسب؟ كيف نُميّز بين الحديث الصادق والصورة المُتقنة؟ كيف نعلم أن من يتحدث أمامنا ليس مجرد قناع رقمي برمجته خوارزمية لتقنعنا بشيء ما؟
المسألة لم تعد مستقبلية؛ إننا نعيشها الآن، والموجة بدأت للتو، وستتسارع، وفي كل مرة نحاول أن نفهم ما يحدث يظهر ما هو أعقد، وأذكى، وأكثر شبهًا بنا. هل نحن مستعدون لهذا الواقعٍ الذي سيكون “التحقق” فيه ضرورة؟ هل نمتلك الأدوات النفسية والمعرفية لنقف في وجه هذا الانبهار، ونطرح الأسئلة الصعبة؟
الذكاء الاصطناعي امتحان للإنسان: لوعيه، ومبادئه، وقدرته على أن يظل مرجع نفسه. فنحن، مهما بلغت دقّة المحاكاة، لا نُختصر في “شكل” ولا “نص”، بل في مسؤولية السؤال والشكّ والبحث. في زمنٍ تتقن فيه الخوارزميات فنّ الحديث، ويغدو الصوت أقرب ما يكون للحقيقة، تظل البوصلة الوحيدة التي لا تُخدع هي وعي الإنسان؛ لذا فإن النصيحة التي لا تبلى هي:
كن مرجع نفسك، تحقّق، ابحث، ولا تصدق كل ما يُقال؛ لأن ما يبدو بشريًا قد لا يكون كذلك، وما يبدو واضحًا قد يخفي في طيّاته خوارزمية تحسن الإقناع أكثر مما تحسن الصدق
وفي نهاية المطاف نحن بحاجة للاقتناع بأنفسنا، وأن نُدرك أننا نحن الأصل، وما سوانا مجرد أدوات.
بقلم: وجدان الفهيد