لا يمكن الحديث عن القرية وتجذّر الإنسان فيها دون أن نستحضر الحزام وصاحبها الذي لم يصف القرية من خارجها، بل تكلم بصوتها من الداخل، فخرج نصه صوتًا للأرض لا سردًا عنها. صاغ أبو دهمان -رحمه الله- روايته بلغة شاهقة تتصاعد كما المطر في قريته الذي يصعد إلى السماء، ولا يهطل منها. الحزام سيرة قرية تشبه كل القرى التي نعته قبلنا، كتبها ثم رحل.
كان الرحيل مفاجئًا بما يكفي لاستعادة الحزام من جديد، كما تستدعي الذاكرة ما لا يغيب عنها. قرأتها أول مرة قبل أعوام في رحلة القطار من مانشستر إلى لندن ذهابًا وإيابًا حين شعرت أنني أحمل بين يدي صوتًا لكل القرى في وطني. واليوم أقرؤها محاولًا الإصغاء إلى ذلك الصوت الذي ظلَّ حيًا بين طيّاتها، سائرًا في سردها بذاكرةٍ لا تهدأ؛ غير أني أصغي إليها هذه المرّة بوجدان كامل.
نكتب عن الحزام بكل الحواس من أجل الحب والغناء والحياة المسرودة في تلك البيئة القرويَّة، فلكل نشاطٍ في الحزام غناؤه الخاص. والقرية في عالم أبي دهمان لم تكن إلا أغنية فريدة نابضة بالحياة، ويكفيك أن تصغي إلى أشجارها، أو نباتاتها، أو زهورها، أو صخورها، أو مائها… كي تسمعها تغنِّي.
تبدو رواية الحزام في ظاهرها روايةً عن القرية والطفولة والولد الذي يغادر موطنه بحثًا عن معرفة أخرى، لكنها في كُنْهِها الأعمق روايةٌ عن الأرض وصوتها وأدبها بوصفها كائنًا شعوريًا له حياته. فالأرض فيها شريكٌ فاعلٌ في الحكاية؛ منها تتكوّن الرؤية والنظرة إلى العالم، وفيها تتجذّر اللغة، وإليها يعود الانتماء. إنها ما تمنح النص نبرته وإيقاعه وتوازنه الداخلي، فالصخور والبيوت ورائحة الحقول وانحدارات الوديان وامتداد أشعة الشمس استثمرت كلها في السرد كطبقات وعي حيَّة ترسم علاقة الإنسان بذاته ومكانه وبالعالم من حوله.
وبهذه الرؤية المتسعة تتحول الحزام إلى حدث ثقافي مكثّف وأغنية سرديَّة مكتملة، وإلى بنية تمارس فعل التفكير، وتشكُّل الهوية ومعنى الانتماء، بعد أن صيغت بلغة متجذرة في الأرض تعد حداثةً تنبع من الداخل، وهي حداثةٌ تعتمد على الإيقاع والتوتر بين الحضور والغياب، وعلى الانصهار الشفيف بين السرد والشعر. فالحزام في نَسْغِها العميق ليست إلا قصيدة ممتدة على سفوح الجبال وهضابها ووهادها، تحتفظ بإيقاع السراة وهي تُروى أولًا بالفرنسية، قبل أن تعود إلى جذورها العربية ومهدها القرويِّ.
ومع أن الرواية تحكي عن السفر إلى فرنسا، فإنها تُثبت في الوقت نفسه أن الحزام هو ما كان يشدّ ذاكرة الابن إلى بيئته الأولى وجذوره. ففرنسا كانت مختبرًا للهوية ومرآةً يرى فيها البطل ملامح قريته ويقترب منها أكثر مما يبتعد. ومن هنا صنع أبو دهمان -رحمه الله- نصًا معلَّقًا بين عالم الطفولة حيث الأشياء بدائية وصافية، وعالم المدينة حيث كل شيء قابل للتبدّل.
يرحل أبو دهمان اليوم، وتبقى الحزام شاهدة على أن الأدب حين يتصل بالأرض يتجاوز الزمن؛ فالنصوص التي تنبت من تراب القرى لا تموت، بل تمتدّ كجذور الشجر في باطن الأرض. وتظل الحِزام سيرةً ثقافية وذكرى خالدة لتلك القرى التي جعل منها الراحل أمكنة للحبّ والحكمة والانتماء والعمل… والكتابة والوجدان أيضًا.




