تقرير – سلطان المواش
يشهد البحر الأحمر فصلًا جديدًا في مسيرة المملكة لحماية الحياة الفطرية، مع إعلان محمية رأس حاطبة ومحمية الثقوب الزرقاء كمحميتين طبيعيتين جديدتين تنضمان إلى شبكة المناطق المحمية تحت إشراف المركز الوطني لتنمية الحياة الفطرية.
ويمتد أثر هذا الإعلان إلى ما هو أبعد من الجغرافيا، فهو خطوة ترسّخ حضور المملكة كأحد أبرز النماذج الإقليمية في صون التنوع الأحيائي البحري، وتعكس التزامها بتحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030 في الحفاظ على البيئة وتفعيل السياحة البيئية المستدامة.
في أقصى البحر الأحمر، تمتد محمية رأس حاطبة كلوحة بحرية تعج بالحياة، هذه المحمية تُعد من أهم المواقع البحرية في المملكة لما تحتويه من ثراء بيئي فريد وموائل بالغة الحساسية، ما يجعلها مركزًا محوريًا لدعم النظم الأحيائية واستدامتها.
تنتشر في أرجائها تشكيلات مرجانية متنوعة تشمل الشعاب الحاجزية ومئات الشعاب البُقعية، التي تُشكل بنية أساسية لأنظمة الحياة البحرية ومواقع للتغذية والتكاثر والحضانة لعدد كبير من الكائنات. هذا التنوع البنيوي في الأنماط المرجانية يعزز من مرونة النظام البيئي وقدرته على مواجهة التغيرات الطبيعية والضغوط البشرية.
ولا تقتصر قيمة رأس حاطبة على بيئتها البحرية فحسب، إذ تحتضن ثماني جزر بحرية رملية تُعد ملاذًا لتعشيش الطيور والسلاحف البحرية، وتمنح المنطقة تكاملًا فريدًا بين البر والبحر. في مياهها الضحلة، تمتد مروج الحشائش البحرية كمسطحات خضراء تحت الماء، توفر غذاءً أساسيًا للأسماك والسلاحف، وتشكل أحد أهم مخازن الكربون الذي يسهم في التخفيف من آثار تغير المناخ. وعلى أطرافها، تنتشر غابات المانجروف كخط دفاع طبيعي يحمي السواحل من التآكل والعواصف، فيما تُعد بيئة حضانة لصغار الأسماك والطيور الساحلية.
الدراسات الميدانية الحديثة أظهرت أن الشعاب المرجانية والأسماك في رأس حاطبة تتمتع بمؤشرات صحية جيدة، تعكس استقرار النظام البيئي البحري وقدرته على التجدد الطبيعي. كما رُصدت فيها كائنات بحرية كبرى ذات أهمية عالمية، منها قرش الحوت والحوت البريدي والدلفين قاروري الأنف والسلاحف الخضراء، وجميعها تُعد مؤشرات حيوية على نقاء البيئة البحرية وسلامة سلاسلها الغذائية.
وتخضع المحمية لبرامج رقابة ومتابعة بيئية دقيقة تشمل مراقبة الشعاب المرجانية والأسماك مرتين سنويًا، ومسوحًا دورية لمروج الحشائش البحرية. كما تُحظر أنشطة الصيد بشباك الجر داخل نطاقها لحماية المواطن الحساسة، وتُنفذ خطط أمن حيوي لرصد الأنواع غير المحلية وإدارة مخاطرها.
كما تمتد محمية الثقوب الزرقاء كأحد الاكتشافات الحديثة والأكثر فرادة في البيئة البحرية السعودية. اكتُشفت هذه المنطقة عام 2022 خلال رحلة العقد العالمية لاستكشاف البحر الأحمر، بمشاركة سفينة الأبحاث OceanXplorer وسفينة العزيزي التابعة لجامعة الملك عبد العزيز.
وجاء هذا الاكتشاف ليكشف عن كنز طبيعي من التكوينات الجيومورفولوجية النادرة، حيث تحتضن المحمية مجموعة من الثقوب الزرقاء التي تُعد من الظواهر الفريدة على مستوى العالم، وتشكل نظمًا بيئية بحرية معقدة توفر نافذة علمية لفهم تطور الشعاب المرجانية وتاريخ الأنظمة الساحلية في البحر الأحمر.
تتنوّع البيئات داخل الثقوب الزرقاء بين الشعاب الحاجزية والحلقية والبقعية، ما يجعلها موئلًا غنيًا للكائنات البحرية وموقعًا مثاليًا للتكاثر والتغذية. وعلى امتدادها العديد من الجزر البحرية معظمها رملية، تؤدي دورًا محوريًا في دعم النظم البرية والبحرية معًا، إذ توفر مناطق تعشيش للطيور والسلاحف البحرية وتشكّل جزءًا من شبكة بيئية مترابطة.
وتزخر مياه المحمية بتنوّع مدهش من الأسماك واللافقاريات مثل نجم البحر وقنافذ البحر والمحار العملاق وخيار البحر، وهي كائنات حساسة تُستخدم كمؤشرات على صحة النظام البيئي. أما مروج الحشائش البحرية، فتغطي مساحات واسعة وتؤدي دورًا أساسيا في دورة الكربون الأزرق، وفي توازن السلاسل الغذائية البحرية.
ورُصد في المحمية مشاهدات عديدة لأنواع بحرية كبرى، مثل قرش الحوت، والسلاحف البحرية من بينها السلحفاة الخضراء وصقرية ، إلى جانب الدلافين وحوت البريدي الذي يؤكد أهمية المنطقة كموئل للهجرة والتغذية.
وتجري في المحمية برامج مسح ومتابعة منتظمة للشعاب المرجانية ومروج الحشائش البحرية، إلى جانب تفتيش بيئي دوري للتأكد من الالتزام بالأنظمة، وإعداد خطة أمن حيوي شاملة للمناطق الساحلية المحيطة.
إعلان هاتين المحميتين لا يُمثل مجرد توسّع في شبكة المناطق المحمية، بل يعكس نهجًا متكاملًا في إدارة البيئات البحرية يقوم على الرصد العلمي، والتنوع الوظيفي للموائل، وربط حماية البيئة بالتنمية المستدامة. فمروج الحشائش وغابات المانجروف تشكّل خزانات طبيعية للكربون، والقروش والدلافين والطيور البحرية تمثل مؤشرات حيّة لسلامة السلاسل الغذائية، بينما تفتح الثقوب الزرقاء آفاقًا علمية جديدة لفهم نشأة الحياة في البيئات العميقة.
وبهذا الإعلان، تواصل المملكة خطواتها الطموحة نحو رفع نسبة المناطق المحمية للوصول إلى 30% من مساحتها البرية والبحرية بحلول عام 2030، لتحقيق مستهدفات مبادرة السعودية الخضراء. إنها ليست مجرد إضافة جغرافية إلى خريطة المحميات، بل إضافة نوعية إلى سجل الوعي البيئي العالمي، تؤكد أن البحر الأحمر ليس بحرًا بين قارتين فقط، بل مهد حياة تتجدّد في قلب رؤية وطن يسعى لأن يحفظ طبيعته كما يصنع مستقبله.







