البحرين / جمال الياقوت
أكد المفكر الكويتي الدكتور محمد الرميحي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة الكويت، أن أمن الخليج لم يعد قضية محصورة في التحديات العسكرية فحسب، بل بات مرتبطًا بتطورات المشهد الدولي، وتقلباته، مؤكدًا أن اعتماد دول الخليج على قدراتها الذاتية وتعزيز العمل المشترك يمثلان الخيار الأكثر واقعية في مرحلةٍ وصفها بـ«زمن التوحّش»، حيث تتقدّم المصالح الدولية على مبادئ القانون الدولي.
جاء ذلك ضمن محاضرته التي ألقاها في برنامج نادي الخريجين الثقافي لعامي 2025-2026، بعنوان «أمن الخليج في عالم متغير»، بحضور نبيل بن يعقوب الحمر، مستشار جلالة ملك مملكة البحرين لشؤون الإعلام ، وأدار الندوة الإعلامي يوسف الحمدان.
وفي سياق حديثه عن التحوّلات الإقليمية المتسارعة، أشار الرميحي إلى أن المنطقة لا تزال تواجه تداعيات المشاريع التوسعية في الجوار، وتمدد الأذرع غير الرسمية المهددة للاستقرار، إلى جانب الأعباء المتزايدة التي تتحملها دول الخليج نتيجة الأزمات المتلاحقة في الشرق الأوسط، ما يفرض ضرورة بناء منظومة ردع خليجية قادرة على حماية المكتسبات التنموية.
وأوضح أن التنمية المستمرة في دول الخليج وما حققته من قفزات اقتصادية وبشرية تشكّل عنصر قوة ينبغي صيانته وتطويره، داعيًا إلى الانتقال من الاعتماد على العوائد الريعية إلى الاستثمار في المعرفة والعقول وتعزيز التكامل الاقتصادي، بما يضمن استدامة الأمن والاستقرار على المدى البعيد.
ودعا في هذا السياق إلى الاهتمام بعاملين أساسيين: التعليم والاقتصاد، مشيرًا إلى أن نسبة المتعلمين في دول الخليج مرتفعة جدًا، غير أن نوعية التعليم ما زالت بحاجة إلى مزيد من التطوير.
وعلى صعيد الاقتصاد، حثّ على اتخاذ خطوات عملية نحو إنشاء سوق خليجية مشتركة، بحيث يكون هناك سوق كبير قادر على احتواء الابتكارات الجديدة والتوجه نحو التقنية، لأن محفزات التنمية تغيّرت عن السابق، ونحن بحاجة اليوم إلى هذا النوع من المحفزات. وأضاف: «السوق الخليجية الموحدة ضرورية، فالأسواق الصغيرة في هذا العالم أصبحت محدودة الفعالية والتأثير، أما السوق الكبيرة فلها فوائد للجميع».
وعن رؤيته لأمن الخليج في ظل التغيرات الحالية، قال الرميحي: «نعيش في مرحلة انتقالية صعبة، والمنطقة كلها محاطة باضطرابات صعبة، حروب في السودان، وعدم استقرار في سوريا ولبنان واليمن وليبيا، والمنطقة الوحيدة المستقرة أمنيًا هي الخليج، ونريد أن نحافظ عليها من خلال الدعوة إلى التوحد أكثر والتنسيق بسياسات أفضل».
إيران والتحديات الإقليمية
وصف الرميحي إيران بأنها تمثل تحديًا مركبًا لأمن الخليج، كونها جارًا تاريخيًا وثقافيًا لا يمكن تجاهله، بينما تتبنى سياسات توسعية وتدخلية تثير القلق في المنطقة. وأكد ضرورة التعامل الواقعي والمتزن مع طهران، بعيدًا عن التهويل أو التهوين، وإدارة العلاقات على أساس المصالح المشتركة التي توازن بين الردع والدبلوماسية
وأشار إلى أن إيران تمارس ما يُعرف بـ«القوة الناعمة» عبر دعم جماعات سياسية وطائفية في المنطقة، مؤكدًا أن الرد على هذا النوع من التهديد لا يكون بالتسليح وحده، بل عبر تعزيز الجبهة الداخلية ونشر الوعي الوطني لمواجهة الاختراقات الأيديولوجية.
وفي محور آخر، تناول الرميحي ما وصفه بـ«المسألة اليهودية الجديدة» في سياق التحولات الجارية في العلاقات العربية–الإسرائيلية، موضحًا أن المنطقة تشهد مرحلة إعادة تموضع استراتيجي تتقاطع فيها المصالح الاقتصادية والأمنية والعلمية. وأكد أن إدارة العلاقات مع إسرائيل ينبغي أن تقوم على منطق المصالح الوطنية والتعاون العلمي والتكنولوجي، بعيدًا عن الاصطفافات الأيديولوجية التقليدية.
موازين القوى العالمية
أشار الرميحي إلى أن العالم بعد الحرب الروسية-الأوكرانية يعيش مرحلة إعادة رسم للخرائط الجيوسياسية، وأن الولايات المتحدة لم تعد اللاعب الأوحد في المنطقة، بينما تسعى روسيا والصين والهند وتركيا لتعزيز حضورها في الخليج والشرق الأوسط. وأكد أن التعددية في مراكز القوة تفرض على دول الخليج انتهاج سياسة مرنة ومتوازنة تقوم على تنويع الشركاء الاستراتيجيين، مع الحفاظ على المصالح العليا والاستقلالية في القرار الوطني.
ولفت إلى أن التحولات في سوق الطاقة العالمية، خاصة مع التوجه نحو الطاقة النظيفة، تشكل تحديًا استراتيجيًا لدول الخليج، مؤكدًا أن الاستثمار في الاقتصاد المعرفي والابتكار يمثل ضمانة طويلة المدى للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
الأمن السيبراني والتكامل الخليجي
وانتقل الرميحي بعد ذلك إلى مفهوم الأمن في العصر الرقمي، مشيرًا إلى أن الأمن في القرن الحادي والعشرين لم يعد محصورًا بالحدود الجغرافية، بل امتد ليشمل الفضاء السيبراني والمجال الرقمي، حيث تشكل الهجمات الإلكترونية تهديدًا وجوديًا للدول.
وأكد على ضرورة تعزيز البنية التحتية للأمن السيبراني، وتطوير الكفاءات الوطنية في الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات وحماية المعلومات، موضحًا أن التحدي الأكبر يكمن في بناء وعي مجتمعي قادر على التعامل مع هذه التكنولوجيات بمسؤولية، نظرًا لأن الفضاء الرقمي أصبح ساحة للحروب الدعائية والتضليل الإعلامي، الأمر الذي يجعل الوعي الإعلامي والمعرفي مكوّنًا أساسيًا من منظومة الأمن الوطني.
كما أكد الرميحي أن الاستقرار السياسي والاجتماعي حجر الزاوية لأي منظومة أمنية، وأن بناء الدولة الحديثة في الخليج يجب أن يرتكز على العدالة والشفافية والمواطنة المتساوية، مع تمكين الشباب وتأهيلهم من خلال التعليم والتفكير النقدي والبحث العلمي. وأوضح أن التعليم هو خط الدفاع الأول عن الأمن الوطني، لأنه يخلق الوعي، ويحمي المجتمع من التطرف والانغلاق.
وأشار إلى أهمية التعاون الخليجي المشترك، مؤكدًا أن مجلس التعاون يمثل الإطار الأنسب لتحقيق الأمن الجماعي، ودعا إلى تفعيل آليات التنسيق الأمني والعسكري والاقتصادي، وتعميق التكامل في مجالات التكنولوجيا والتعليم والطاقة المتجددة. وأكد أن الأمن الخليجي لا يتحقق بالتحالفات الخارجية وحدها، بل من خلال رؤية استراتيجية موحدة تستند إلى المصالح المشتركة والوعي الجمعي بمصير المنطقة.
السرديّات الإقليمية
وأوضح الرميحي أن أمن الخليج يستوجب فهم السياق العام للمتغيرات الإقليمية والدولية، وتحليل الاستخدام السياسي للدين والمذهب في إسرائيل وإيران. وأوضح أن تناول موضوع إسرائيل أو الصهيونية الدينية لا يعني المساس بالدين اليهودي، كما أن الحديث عن إيران لا يعني التعرّض للمذهب الشيعي، وإنما يتعلق بالاستثمار السياسي في العقيدة.
وأشار إلى أن المنطقة تقع بين سرديتين متقابلتين: الأولى إسرائيلية تعتمد على الميثولوجيا الدينية والتوسع السياسي، والثانية إيرانية تبني على الأسطورة الفارسية القديمة، وتربط الشيعة بالقيادة الإيرانية. وأوضح أن كلتا السرديتين تشتركان في نزعة التفوق العرقي والتاريخي وتجاوز الأعراف الدولية، ما يجعل إسرائيل وإيران التحديين الأساسيين لأمن الخليج .
واستعرض الرميحي التحولات الكبرى في النظام الدولي، بدءًا من انسحاب النفوذ البريطاني، ثم الهيمنة الأمريكية المتراجعة، وصولًا إلى مرحلة «اللايقين» في العلاقات الدولية، حيث يسود التفاوض والمصالح المتقلبة، ويضعف القانون الدولي. وأوضح أن إسرائيل وإيران توظفان الخوف؛ لتعزيز سيطرتهما الإقليمية، فيما يُستنزف الدم العربي في النزاعات المتكررة في غزة وسوريا واليمن والعراق.
التحوّلات الفكرية
توقف الرميحي عند دراسة المسألة اليهودية علميًا، موضحًا التحولات التاريخية في الموقف الأوروبي من اليهود، بدءًا من العزلة والتمييز وصولًا إلى الدعم المطلق لإسرائيل، كما تناول دور الحركة الصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة وتأثيرها السياسي والإعلامي.
واستعرض المسار التاريخي للنظام الإيراني بعد الثورة الإسلامية عام 1979، وارتباط المذهب الشيعي بالسلطة السياسية، والتمييز بين التشيع العلوي وحركة الصفويين السياسيين.
وأكد أن امتلاك إيران للسلاح النووي مصدر قلق مشروع لدول الخليج، ليس بسبب السلاح ذاته، بل بسبب الأيديولوجيا التوسعية التي تصاحبه. وأوضح أن أذرعها الإقليمية تراجع تأثيرها، وأن صمودها يتأثر بالفشل الاقتصادي الداخلي وغياب الحريات، مما يجعل النظام الإيراني حذرًا من الدخول في حرب طويلة مع إسرائيل.
ودعا الرميحي إلى تأسيس منظومة ردع خليجية جماعية، مع التركيز على التنمية والاستثمار في العقول بدل الاعتماد على النفط فقط، مؤكدًا أهمية إنشاء مجلس تنفيذي لمجلس التعاون يُعنى بوضع جدول أولويات واضح، وإقامة محكمة لتسوية المنازعات، وتفعيل السوق الخليجية الموحدة، وتطوير التعليم والبحث العلمي، وتنسيق ملفات الدفاع والتغير المناخي، وتعزيز الهوية الخليجية في الفضاء الرقمي والثقافي، وتنمية القوة الناعمة.






