ألقى الشيخ الدكتور بندر بليلة خطبة الجمعة اليوم بالمسجد الحرام، وأوصى بتقوى الله -عز وجل- في السر والعلن، وقال: فقد اقترب للناس حسابُهم، وأزِف مآبُهم، وسيوقِظُ النائمَ منهم الموتُ وسَكرتُه، ويَضُمُّه القبرُ وتُوحشُه وظُلمتُه، ويسألُه ربُّه وتَشغلُه مسألتُه، فاتقوا الله وأحسِنوا، فقد أنذر وأعذر وقامت حُجتُه.
وأضاف: إن الآمالُ في الدنيا عريضة، والأماني فيها مُستفيضة، ورغبةُ كلِّ آمِلٍ ومُنْيتُهُ أن يَحيا على ظهرها سعيدًا، هانئًا حميدًا. السعادةُ رُوحٌ في الروح تَجري، ونَفحةٌ في النفس تَسري، الإيمانُ بالله مَدَدُها، والعملُ الصالح عُدَدُها. حياةٌ طيبةٌ في هذه الدار، وجزاءٌ كريمٌ في دار القرار، ومَن تَقَضَّتْ في الجَهالة ساعاتُه، وذهبتْ في المعاصي أوقاتُه، أحاطت به المَخاوِفُ والآلام، وحَلَّتْ بقلبه الهمومُ والأقسام.
وبيّن فضيلته أن من اتبعَ النبيَّ محمدًا -صلى الله عليه وسلم- شرح اللهُ صدرَه، فاللهُ شَرح لنبيه صدرَه، ولأتباعه من ذلك بقدر اتباعهم لسُنته، واقتفائهم لمِلته، وأسْعَدُ الناسِ مَن مَنَح الناسَ معروفًا ويدًا، وأنالَهم كرمًا وجودًا ورِفدًا، قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية رحمه الله: “السعادةُ في معاملةِ الخلقِ أن تُعاملَهم لله، فترجوَ اللهَ فيهم ولا ترجوهم في الله، وتخافَهُ فيهم ولا تخافُهم في الله، وتُحسِنَ إليهم رجاءَ ثوابِ اللهِ لا لمكافأتهم، وتَكُفَّ عن ظُلمِهِم خوفًا من الله لا منهم”.
ومضى الدكتور بليلة قائلًا: ألا ما أهْنأ مَن أقبل على مولاه، ولم يَرْجُ أحدًا سِواه، لم تُلْهِه الدنيا وشهواتُها، ولم تَغُرَّه زخارفُها ومَلذَّاتُها، إن أُعطيَ شكر، وإن مُنع صبر، وإن أذنَب استغفرَ عما اقترفه وجَناه، تلك السعادةُ الحقُّة التي لمثلها يعمل العاملون، فمن فاتته فهو الخاسرُ المغبون.
وأشار إمام وخطيب المسجد الحرام إلى أن لله في خلقه أيامٌ دالةٌ على كمال قُدرته وعظمته، وشاهدةٌ على تمام عدله وحكمته، ومن أيامه العظيمةِ يومُنا هذا، يومُ عاشوراء؛ يومٌ أنجى اللهُ فيه موسى عليه السلامُ وقومَه، وأغرق فرعونَ وقومَه؛ فشُرع صيامُه حمدًا لله وشُكرًا، وكان على ذلك الثوابُ الجزيل، والجزاءُ الجليل.. فعن ابن عباس -رضي اللهُ عنهما- قال: لما قَدِم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ وجد اليهودَ يصومون عاشوراء، فسُئلوا عن ذلك فقالوا: هذا اليومُ الذي أظْفَرَ اللهُ فيه موسى وبني إسرائيلَ على فرعون، ونحن نصومه تعظيمًا له. فقال رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: “نحن أولى بموسى منكم”، ثم أمر بصومه. أخرجه البخاريُّ ومسلم. وقال عليه الصلاةُ والسلام: “صيامُ يومِ عاشوراءَ أحتسبُ على الله أن يُكفِّر السنةَ التي قبله” أخرجه مسلم.
وفي المدينة المنورة أوصى إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور أحمد الحذيفي المسلمين بتقوى الله، قال تعالى {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ. وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ. وَإِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ. وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا}. مبينًا أن التقوى هي ميزان الكرامة ومجمع الفضائل ومفتاح البركات ومطية السائلين إلى رب العالمين.
وتابع: إن هذا الشهر هو مستهل العام الهجري مبينًا قصة بدء هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي غيرت مجرى التاريخ، مضيفًا بأن عمر بن الخطاب استشار الصحابة في التأريخ فاتفقوا على يكون مبدؤه من عام الهجرة النبوية.
وأوضح الشيخ الحذيفي أن بدء التأريخ بالعام الهجري بدأ من قدوم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة المنورة.
وأشار خطيب المسجد النبوي إلى أن يوم عاشوراء هو اليوم الذي نجى الله فيه موسى، ففي الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قدم المدينة في هجرته وجد اليهود يصومون عاشوراء، فعن ابن عباس قال: قَدِمَ رَسولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ- المَدِينَةَ، فَوَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَ يَومَ عَاشُورَاءَ فَسُئِلُوا عن ذلكَ فَقالوا: هذا اليَوْمُ الذي أَظْهَرَ اللَّهُ فيه مُوسَى وَبَنِي إسْرَائِيلَ علَى فِرْعَوْنَ، فَنَحْنُ نَصُومُهُ تَعْظِيمًا له، فَقالَ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ-: “نَحْنُ أَوْلَى بمُوسَى مِنكُم”؛ فأمَرَ بصَوْمِهِ.
وتابع إمام وخطيب المسجد النبوي: إن ما حدث في الهجرة ونجاة موسى عليه السلام إشارة إلى حسن العقبى والتمكين في الأرض.
وختم فضيلته الخطبة بالإشارة إلى التشابه الحاصل بين قصة موسى عليه السلام وهجرة رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة؛ ففيهما كان طلب النجاة بالدين هو المقصد، وهو ما جرت به السنن.
وبيّن قصة ورقة بن نوفل وهجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما ستؤول إليه الأمور، فبعد حادثة غار حراء ذهبت خَديجةُ مُصاحِبةً له -صلى الله عليه وسلم- إلى وَرَقةَ بنِ نَوفلٍ، وهو ابنُ عَمِّ خَديجةَ، أخو أبيها، وكان وَرَقةُ قدْ تَنصَّرَ في الجاهليَّةِ، وكان يَكتُبُ باللُّغةِ العربيَّةِ، “ويَكتُبُ مِن الإنجيلِ بالعَرَبيَّةِ ما شاءَ اللهُ أنْ يَكتُبَ”؛ وذلك لتَمَكُّنِه في دينِ النَّصارى ومَعرِفَتِه بكِتابِهم، وكان وَرقةُ شيْخًا كَبيرًا قدْ عَمِيَ، فقالت له خَديجةُ: يا عَمِّ، اسمَعْ مِن ابنِ أخيك، تعني النَّبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-؛ لأنَّ الأبَ الثَّالثَ لِوَرقةَ هو الأخُ للأبِ الرَّابِعِ لِرَسولِ الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-، فأخبَرَه النَّبيُّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- خبَرَ ما رآهُ، فقال له وَرَقةُ: “هذا النَّاموسُ” -أي: جبريلُ- الذي أُنزِلَ على موسى. ثم قال للنبيِّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: “لَيْتني في مُدَّةِ النبوَّةِ -أو الدَّعوةِ- جَذَعًا (أي: شابًّا قويًّا. والجَذَعُ: الصَّغيرُ مِنَ البهائِمِ). ليْتَني أكونُ حَيًّا حِين يُخرِجُك قَومُك مِن مَكَّةَ”. فسأله رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-: “أَوَ مُخرجِيَّ همْ؟!” فأجابه وَرَقةُ: نعمْ؛ لم يَأتِ رَجُلٌ بما جِئتَ به مِنَ الوَحيِ إلَّا أوذِيَ وعُودِيَ؛ لأنَّه يدعو النَّاسَ إلى دينٍ جديدٍ على غيرِ ما أَلِفوه واعتادوه.
وبيّن أن في هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- ونجاة موسى من فرعون إيضاحًا من الله تعالى لمدى العناية التي حظي بها صلوات الله وسلامه عليه، وأن عاقبتها التمكين في الأرض.




