تمثل الأسوار الأثرية المحيطة بالقرى والمدن القديمة كنزاً ثقافياً أشبه بصندوق مجوهرات عتيق، وهي أحد عناصر التراث الثقافي المعماري في المملكة، نظراً للقيمة التاريخية والجمالية لهذه الأسوار التي بقي كثير من أجزائها نتيجة عناية سكان تلك القرى والمدن التاريخية بها، عبر بناء أسوار قوية وصلبة أبقتها شامخة.
وقد عرفت ثقافة الأسوار في الجزيرة العربية في أواخر العصر البرونزي أي الألف الثاني قبل الميلاد، وربما أقدم، حيث كانت بدايتها بالحبال الحجرية على قمم الجبال، حتى وصلت عبر تطور الحضارات إلى ماهي عليه الآن.
ويشير أستاذ الآثار د. عبد العزيز بن سعود الغزي في أحد بحوثه العلمية إلى أن الإنسان القديم فكر مع ظهور البلدات الصغيرة بتشييد الأسوار لتكون حصناً منيعاً لحماية ممتلكاته، وتبقيه آمناً من الهجمات المباغتة، فشيدها بضخامة ملحوظة، وارتفاع شاهق، وأبراج متعددة تنتظم على جدرانها وعند أركانها، مخصصين أشخاصاً مؤهلين لحمايتها من هجمات العدو، كما أنها تساعدهم في تحديد مصدر السرقة، إذ إنه بإغلاق أبواب السور ليلاً يكون معلوماً للجميع أن كل من يوجد داخل البلدة هم من أهلها.
وتمثل الأسوار قوة معنوية لمحاربي البلدة في حال تعرضهم للهجوم أو انهزامهم، حيث تبقيهم مطمئنين لوجودها باعتبارها حامية لهم ليس من العدو فحسب بل حتى من كوارث الطبيعة كالسيول الجارفة.
ومن أبرز الأسوار الأثرية المكتشفة في المملكة:
“سور تيماء”
تزخر محافظة تيماء بمنطقة تبوك بعدد من المباني الأثرية التي ما زالت محتفظة بأجزاء كبيرة منها، ومن أشهر هذه المواقع (سور تيماء الأثري) والذي يبلغ طوله أكثر من عشرة كيلو مترات وارتفاعه في بعض الأجزاء أكثر من عشرة أمتار وعرض جداره ما بين المتر والمترين، وتعود فترة بنائه إلى القرن السادس قبل الميلاد.
ويحيط السور تيماء القديمة من جهاتها كاملة عدا الجزء الأوسط من جهته الشمالية إذ تختفي معالمه فيها، متأثراً بموقعه وسط منطقة السبخة الملحية التي غالباً ما تكون مليئة بالمياه باعتبارها النقطة الأكثر انخفاضاً في واحة تيماء، ويبدأ من وسط السبخة ويتجه غرباً ثم يلتف بشكل دائري حول منطقة قصر الحمراء، ثم يتجه جنوباً ويستمر حتى يقطعه الطريق المعبد – طريق تيماء – تبوك.
ويقطع السور هذه المسافة بطول (12كم) تقريباً ويبلغ ارتفاع المتبقي منه في بعض الأجزاء أكثر من عشرة أمتار لكنه يقل إلى الخمسة في بعض الأجزاء في حين تقل بعضها إلى مستوى سطح الأرض – وإن كانت أجزاء قليلة جداً منه خاصة منطقة السبخة.
وتختلف مادة البناء من جزء لآخر، ولكن الصفة الغالبة هي الحجارة، متنوعة التركيب بين الحجارة الرملية الصلبة والحجارة الرملية الهشة نسبياً.
“دومة الجندل”
يحيط سور دومة الجندل بمدينة دومة الجندل القديمة وهي المدينة المعروفة بتحصيناتها القوية، حيث يمتد السور إلى عدة كيلو مترات حول المدينة، وتبعد أقصى نقطة له من مركز المدينة مسافة 2 كم تقريباً، أما الأجزاء المتبقية منه فتقع في الجزء الغربي وجانب من الجزء الشمالي من المدينة، ومع مرور الزمن وعوامل الطبيعة اختفت الأجزاء الجنوبية والشرقية من السور حول المدينة.
والسور مبني من الحجارة نفسها التي بنيت بها قلعة مارد وعلى نفس النمط أيضاً، والتي تقع على مقربة منه، وتوجد إلى جوار السور أسوار وأبراج أخرى ملحقة به عن طريق جدار من الطين لتحصين وتأمين المدينة، تعلوها أبراج مستطيلة الشكل لها فتحتان.
“سور الأخدود”
ومن الأسوار الأثرية المهمة أيضا “سور مدينة الأخدود” بمنطقة نجران.
ويعد موقع الأخدود الأثري نموذجاً مميزاً لمدن حضارة جنوب الجزيرة العربية وهو الموقع الذي كانت تقوم عليه مدينة نجران القديمة التي ورد ذكرها في نقوش جنوب الجزيرة العربية باسم (ن ج ر ن) ويعود تاريخ القلعة التي تشكل العنصر الأبرز في الموقع إلى الفترة الممتدة من 500 ق. م إلى منتصف الألف الأول الميلادي، وهي فترة الاستيطان الرئيسية للموقع.
والقلعة عبارة عن مدينة متكاملة مستطيلة الشكل يحيط بها سور بطول 235م يمثل نظام التحصين الذي كان معمولاً به في مدن جنوب الجزيرة العربية، ويحتوي على نتوءات وتجاويف عشوائية وغير منتظمة بمساحات متفاوتة، ويتميز هذا النظام بأن المباني الواقعة على السور تندمج في السور لتشكل جدرانها الخارجية جزءاً من المحيط الدفاعي الخارجي للسور، على أن هذه المباني في الغالب تكون جدرانها أعرض حيث تصل إلى 150 سم، بينما العرض السائد للمباني الداخلية يتراوح بين 80سم – 110سم.
“قرية الفاو”
وفي قرية الفاو الأثرية وسط المملكة، توجد منطقة السوق التي تقع شمال المنطقة السكنية وهي عبارة عن سوق ضخمة مكونة من ثلاثة طوابق يحيط به سور مرتفع مدعم بأربعة أبراج من أربع جهات.
ويحظى الموقع بأهمية تاريخية واقتصادية كبيرة، حيث كانت قرية الفاو عاصمة مملكة كندة الأولى، التي كان لها دور اقتصادي كبير نظراً لموقعها الجغرافي والمهم على إحدى طرق التجارة القديمة في الجزيرة العربية من منتصف القرن الثالث قبل الميلاد حتى مطلع القرن الرابع الميلادي، وكانت مركزاً تجارياً مهماً وملتقى قوافل تحمل المعادن والحبوب والنسيج والبخور وغير ذلك.
واستعمل سكان قرية الفاو في بناء مدينتهم اللبن الطيني بشكليه المربع والمستطيل، كما استعملوا الحجر المنقور والمصقول في الأساس أسفل اللبن الطيني وبناء المدافن، واستخدموا الجص المخلوط بالرمل والرماد لتكسية الجدران الداخلية للمباني، ودعموا مبانيهم بأبراج ذات شكل مربع ومستطيل، ويصل سمك بعض الجدران إلى 180 سم.
وتقوم هيئة التراث بجهود حثيثة للمحافظة على المواقع الأثرية بأنواعها من خلال أعمال الكشف والمسح والتوثيق، كما تم تسوير عدد من المواقع وحمايتها، إضافة إلى تركيب عدد من اللوحات التعريفية والإرشادية.